مناظرة بين بحر ونهر

     أخذ النهر ينحدر من أعالي الجبال، وهو يجتمع ماءه من الجداول والعيون، ومن الثلوج المتراكمة والبحيرات المنتشرة، ثم لم يزل يهوي من منحدر إلى منحدر ومن واد إلى واد، حتى وصل بعد سير طويل، وجهد غير قليل، إلى بحر عظيم فسيح، فأخذ ينصب فيه انصبابا.

    ثم قال له بعد أن دنا فتدلى : أيها اليم الخضم العظيم، لازلت بعافية. وعيشتك ناعمة راضية، ياحبذا أنت أيها البحر ! لولا أن ماءك ملح أجاج، وأنك دائما في غضب وهياج، ثم لا تتحرك، إلا إذا دفعتك الرياح، وإني لاأراك تنفع في الدنيا ولا تنفع فى الأخرى.

أجابه البحر غاضبا:

    ويل لك، لا تعرف لنفسك قدرا ولا تدرك مما في الوجود أمرا، ما أنت أيها المجرى الضئيل الذي له طول وليس له عرض؟ والذي لو شئت لطمسته طمسا ولمحوته من الوجود محوا.

ثم سكت المتناظران ساعة ليستعدا للمشهد الثاني من المناظرة.

    عاد النهر والبحر إلى ميدان المناظرة مرة أخرى، فقال النهر : أيها البحر اهدأ وخفض من كبريائك، فمتى اختلت موازين الأمور فأصبح الفضل للضحامة؟! ماذا يجدي حجمك العظيم وسطحك الطويل العريض، وهذا ماؤك مالح وعملك غير صالح ؟! أنظر إلي : ما أعذب مائي السلسبيل. وما أبدع مجراي من منظر جميل ! الناس جميعا يغترفون من مناهلي، فكم أرويت ظمان وأشبعت جوعان ومن ذا الذي يقرن الملوحة إلى العذوبة ويفضلها عليها؟

    فزمجر البحر وقال : أما تعلم أني أنا الذي أمددتك بالماء ، إذ يتصاعد من سطحي البخار، ثم تحمله الرياح. سحابا، ثم تلقي به مطرا ، ثم يسيل جداول وأنهارا مثلك ؟ فيالك من جاحد للنعمة،  والله لو منعت عنك الماء والمطر لانتهى أمرك.

     تبسم النهر وقال : إنك لست المصدر الذي يمدنا بالماء والله العلي القدير هو الذي خلق الشمس أيضا وجعلها تبخر الماء بحرارتها فتحوله بخارا، وترفعه إلى السماء، ولو كان الأمر إليك لما ظفرنا منك بقطرة واحدة وعلى كل حال فأنا نرد إليك ماء جاريا، لا بخارا طائرا؛ لكن مائي على كثرته؛ لا يكفي لكي يمنحك حلاوة وغذوبة، وستبقي مدى الدهر ملحا أجاجا.